تقول رضي الله عنها: كنت أخرج إلى بادية لنا فيها أهلي، فأقيم بها الثلاث والأربع، وهي ناحية التنعيم، ثم أرجع إلى أهلي، فلا ينكرون ذهابي إلى البادية حتى أجمعت المسير، فخرجت يومًا من مكة كأني أريد البادية، فلما رجع من تبعني، إذا رجل من خزاعة، قال: أين تريدين؟ قلت: ما مسألتك؟ ومن أنت؟ قال: رجل من خزاعة، فلما ذكر خزاعة اطمأننت إليه لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني امرأة من قريش، وإني أريد اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا علم لي بالطريق، فقال: أنا صاحبك حتى أوردك المدينة.
ثم جاءني ببعير فركبته، فكان يقود بي البعير، ولا والله ما يكلمني بكلمة، حتى إذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيده بالشجرة، وتنحى إلى فيء شجرة، حتى إذا كان الرواح حدج البعير فقرَّبه وولَّى عني، فإذا ركبت أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى أنزل، فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله من صاحب خيرًا.
فدخلت على أم سلمة وأنا منتقبة، فما عرفتني حتى إنتسبت وكشفت النقاب، فالتزمتني، وقالت: هاجرتِ إلى الله سبحانه وتعالى وإلى رسوله؟ قلت: نعم، وأنا أخاف أن يردني كما ردَّ أبا جندل وأبا بصير، وحال الرجال ليس كحال النساء، والقوم قد طالت غيبتي اليوم عنهم خمسة أيام منذ فارقتهم، وهم يتحينون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبونني، فإن لم يجدوني رحلوا.
فدخل رسول الله على أم سلمة، فأخبرته خبري، فرحَّب بي، فقلت: إني فررت إليك بديني فإمنعني، ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني، ولا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة، وضعف النساء إلى ما تعرف، وقد رأيتك رددت رجلين، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد نقض العهد في النساء، وحكم في ذلك بحكم رضوه كلهم» ابن الجوزي، صفة الصفوة، 2/30.
تدبير وتخطيط:
إنها فتاة شابة، آثرت الإسلام وصحبة الرسول الكريم على الأب والأم والإخوة، وهي إبنة من؟! ابنة أحد فوارس حلبة الشِّرك عقبة بن أبي معيط، فقد كانت كالنبتة الخضراء في الأرض القاحلة، ولقد جسَّدت هجرتها كل معاني الإيثار والصبر والوفاء لنصرة هذا الدين، أسلمت بمكة، وبايعت قبل الهجرة، وكانت هجرتها في هدنة الحديبية.
هذه الشابة الذكية الراسخة الإيمان، كانت تخرج إلى بادية لأهلها، فتقيم بها، فما ينكر أهلها ذلك، ففكرت بذكاء، وخططت بنور الإسلام، لقد حانت فرصة الخلاص والإنعتاق.
شــجاعة وفراســة:
حتى إذا غادرت مكة وكأنها تريد البادية، وفؤادها يسابق قدميها قاصدًا المدينة، يعترضها رجل يسأل عن شأنها، وككل حرة ترتاب، وترفض تدخله، لكنها وبذكائها اللماح تجد فيه الطمأنينة، فهو من خزاعة التي دخلت في حِلف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق حدسها، فكانت صحبته نعم الصحبة، رعاية وأمانة، حتى وصلت إلى مدينة رسول الله، وسط أخطار جمة أحاطت بالرحلة.
ويبقى كلامها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني فررت إليك بديني فإمنعني، ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني، ولا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة، وضعف النساء إلى ما تعرف، يبقى هذا الكلام كما لو كان معزوفة يُسْمِعْها الزمن لبنات جيلنا، فهي تحكي الرفض بأوتار الضعف والتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم، حرصًا على الإسلام، فأي ضعف هذا الذي يتسع لكل هذه التضحيات والأخطار! إنها قوة الإستعطاف التي يحتاجها الموقف الكبير.
ولينصرن الله من ينصره:
ويطَّلع الله على هذا المشهد، ويأبى خذلان امرأة أرادت نصرته، وتهبط الآية الكريمة في أم كلثوم ومثيلاتها: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة:10].
وتسعد أم كلثوم بالجوار والصحبة المباركة، ويأتي الإمتحان لها وللنساء، فكانت المهاجرة تستحلف بالله، أنها ما خرجت من بغض زوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقًا لرجل من المسلمين، بل حبًّا لله ولرسوله، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها، وما أنفقه عليها ولم يردها.
وإمتحنت أم كلثوم رضي الله عنها فصدقت، وتزوجها زيد بن حارثة، ثم الزبير بن العوام بعد إستشهاد زيد، ثم عبد الرحمن بن عوف، ثم عمرو بن العاص، فقد كانوا رضي الله عنهم، يتحرون الزواج من ذوات السبق والتضحية في دين الله.
المصدر: موقع رسالة المرأة.